كل العلوم سوى القرآن مشغلـة......إلا الحديث وعلم الفقه في الدين -- علم ما كان فيـه قـال حدثنـا.........وما سوي ذلك وسواس الشياطين
كل العلوم سوى القرآن مشغلـة......إلا الحديث وعلم الفقه في الدين -- علم ما كان فيـه قـال حدثنـا.........وما سوي ذلك وسواس الشياطين
اسمي قدور أولاد الحاج إبراهيم على تسمية جدّي أب والدي, لفضائل الأخلاق التي كان يتحلى بها( الشّجاعة, السّخاء ولا تخيفه في الله لومة لائم) وكانت هذه صفاتي أيضا وزكّاني على ذلك خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم( عمر بن الخطّاب) رضي الله عنه في المنام . أنا من مواليد سنة 1944 وقيل سنة 1942, أما كنيتي فهي: أولاد الحاج إبراهيم قدور بن عليّ بن قدور بن إبراهيم بن أحمد بن الفرح بن علي بن معمر بن عيسى بن سليمان بن طريب بن ثولال بن ماظر بن مغرب بن منف بن منيف, وينتهي إلى محمّد بن الحنفية.
كان مشايخي يسمونني عبد القادر, وفضّلت عبد القادر على قدور لما خيره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوله: « خير الأسماء ما عبّد وحمّد»,
أنتمي إلى عائلة متوسطة الحال تسكن البادية وترجع للمدينة مرّة في السّنة, من أبوين كريمين, وأنا أصغر إخوتي وسادسهم. كنت محبا للعلم منذ طفولتي, لكنني لم أجد له سبيلا, ولم يسبق لأحد من إخوتي أن طلبه. لما بلغت السادسة من عمري طلبت من والدي أن يتركني في المدينة فأبى لخوفه عليّ ولعدم وجود مكان آوي إليه, حوالي السابعة من عمري وأثناء فترة عودتنا للمدينة التقيت ببعض الولدان وأخبروني بوجود شيخ في مكان سري , فذهبت إليه ووجدته عالما من علماء مصر الذي كان مقيما عند رجل من عظماء أهل البلد وهومن أصل مصري ومقيم بالمنيعة يسمّى:"علان أبو الفتوح", وكان الشّيخ متخفيا عنده خوفا من ويلات الاستعمار الفرنسي فاتصلت به ورحّب بيّ أحسن ترحيب, وكان عددنا يقارب الخمسين طالبا. بدأنا بحفظ القرآن الكريم والحديث الشّريف والسنّة النّبويّة والأناشيد الوطنّية. كنت من النّجباء حتّى وصفني الشّيخ أنا وزميل لي يسمّى جبريط مصطفى بقوله:« عبد القادر و مصطفى أرجو من الله أن تكونا مصباحين في واحات », وكلّ ذلك كان بدون علم والدي. شاءت المقادير أن قصرت المدّة وهدد الشّيخ وأمر بطرده من المنيعة , ورجعت إلى ما كنت عليه.
وفي كل مرة نعود فيها إلى المدينة أنتهز الفرصة لملاقاة المشايخ والأخذ منهم, من أمثال : الشّيخ سي محمد البكراوي, الطالب بن جلول, الطالب أحمد بن مالك الذي كان نائبا للقاضي,الطالب أحمد بلغيث كلّهم يسكنون البلد. هذا الأخير( أحمد بلغيث) كان يبجّلني على كثير من الطلبة حتى أنه في يوم من الأيّام وشى بي مجموعة من الطلبة إلى الشّيخ غيرة منيّ عن لعبة كنت أحبّها, فقال لي: أفعلت ذلك, قلت: لا, قال: لا تكذب, كلّ شيء أردت فعله افعله ولا تستمرفيه. وكانت هذه أول نصيحة أرتكز عليها في حياتي كلها.
كنت أحبّ القرآن الكريم حبّا كبيرا حتى أنيّ أردت اقتناء جزء من القرآن الكريم ولم أجد من يعطيني ثمن شراء هذا الجزء, فكنت أتسلق النّخيل وأنثر ما سقط في داخلها من التمر و أبيعه كي أشتري جزءا من القرآن, حين تمكنت من جمع مبلغ قليل من الدراهم ذهبت بها مسرعا إلى مكتبة :"الحاج العيد حجاج" وطلبت منه أن يبيعني جزء" عم ", قال لي حينها: "هل معك نقود"؟, فقلت: نعم ,فقال:" هذا لا يكفي ثمن الجزء", فبكيت فقال لي:"اقرأ لي شيئا من القرآن", فقرأت فأعطاني الجزء. جزاه الله خيرا. حين استلامي الجزء فرحت فرحا شديدا وذهبت إلى الحيّ وأنا أركض على رجل واحدة من الفرح, وكانت المسافة تقدر بخمس كيلومترات. كل هذه المدّة وحتى بلوغي عشر سنوات, وأنا في تردد بين طلب العلم أو تركه .
من السّن العاشرة خضت في أمور الدنيا ومتاهاتها من إصلاح البساتين والعمل كأجير, بدأت حياة صعبة وكنت كلّ شيء رأيته جاهدت لتعلمه.
في سنة 1959 كان عمري آنذاك خمسة عشر سنة, بدأت احتراف مهنة بناء. وفي أحد الأيام دعاني أحد المناضلين في جبهة التحرير الوطني إلى الانخراط في النضال السياسي, فلبيت بدون تردد حتى صرت كاتبا لرئيس المجلس البلدي السّري في حاسي القارة آنذاك. ومن بغضي للاستعمار لطرده لشيخي والمعاملة التي كنت أراها أردت الانخراط في جيش التحرير الوطني, فطلبوا مني إحضار بندقية وما يعادلها من الخراطيش, عرضت حالي على والدي وكانت عنده بندقية فلبّى وفرح بذلك وسلّمني البندقية, وكلّ هذا بدون علم إخوتي لأني كنت أنا من يقرأ له الرسائل التي تصله من جبهة التحرير الوطني والجيش كما أنيّ كنت الأقرب إليه. وللأسف الشّديد سلّمت لهم البندقية ولكنّهم لم يقبلوا انخراطي في جيش التحرير لصغر سنيّ, وطلبوا منيّ القيام بالأعمال النضالية داخل البلاد. داومت على هذا الحال حتى سنة 1960 أين ألقي القبض على والدي في نهايتها, فخرجت من المنيعة فارا إلى مدينة عين صالح خوفا من أن يكشف أمري للاستعمار الفرنسي. بقيت فيها حتى نهاية سنة 1961 وأنا أمارس النضال السياسي دون انقطاع,بعد استقرار الأحوال رجعت إلى المنيعة وخرج والدي من السجن.وفي 19 مارس 1962 يوم توقيف القتال, كوّنت الجبهة شرطة سرية, وكنت أحد أفرادها, ثم دعينا بسرّية إلى بلدية الشّارف في حدود ولاية الجلفة , أين نزل أفراد جيش التحرير الوطني بقيادة "شعباني محمد" قائد الولاية السادسة إلى هذه البلدية , ودام المؤتمر ثلاثة أيام بعده عاد كل فرد إلى بلدته. إلى غاية يوم 05 جويلية 1962 أين تم الاستقلال, عيّنت حينها مدربا لمجموعة من الشباب لأداء الأناشيد الوطنية ومهام أخرى, من بينها تلك التي أوكلت لي تكوين فوج من الكشافة حيث كنت قائدا له , كما كنت ممثلا وعازفا, وفي نفس السنة تحصّلت على رخصة السياقة بجميع أصنافها وكنت أوّل من تحصل عليها من مدينة المنيعة في هذه السنّة. دمت على هذا الحال إلى غاية سنة 1963 تزوجت بابنة شهيد.
خرجت من المنيعة طالبا للرزق أين توجهت إلى إفريقيا السّوداء إلى غاية نهاية سنة 1963 وبداية سنة 1964. عند عودتي من مالي إلى الجزائر, نزلت في مدينة تيميمون بولاية أدرار عند رجل صالح فدعا لي وقال لي: يكون لك في المستقبل شأن عظيم فاستبشرت به خيرا وعدت إلى بلدي المنيعة.وضاقت بي الأرض بما رحبت لاشتياقي لطلب العلم , على إثر ذلك ودعت والدي و توجهت إلى الجزائر العاصمة أردت الانخراط في إحدى المدارس الحرّة فطلبوا مني حقوق التمدرس, كما شاركت أيضا في مسابقة التوظيف في الهيئة الوطنية للأمن الوطني, التي تعدّ أعلى هيئة وطنية آنذاك لأجل تحصيل راتب يمكنني من مزاولة الدّراسة, نجحت في المسابقة كعون من أعوانها ودخلت في تربّص دام ستّة أشهر. بدأت معركة الحياة من اضطرابات في الدولة. لم يستقر بّي الحال لطلب العلم لكثرة الأعمال التي أمارسها ,لكن رغم هذا اتصّلت بمدرسة حرّة أخرى وانخرطت فيها ، ومع ذلك لم أكن مواظبا على حضور الدّروس حتّى وقعت في خلاف مع مدير المدرسة وطلب مني الالتزام بالحضور وإلاّ الطّرد من المدرسة , لم أتمكن من الاستمرار نظرا للقوانين المفروضة عليّ من طرف الهيئة , و مارست ما ألزمه علي القانون ودخلت في معترك الأحداث والصراعات آنذاك. عيّنت بعدها مسؤولا لفرقة من رجال الأمن في الدار البيضاء لمراقبة تهريب الأموال للخارج.وباختصارحدث انقلاب من طرف الهيئة التيّ انتمي إليها على الرئيس "أحمد بن بلة "يوم 19 مارس1965 بقيادة "هواري بومدين", حوّلت بعدها من الدار البيضاء إلى مقر رئاسة الجمهورية ضمن الفرقة المختصة بالمؤتمرات, وكل هذا لم يمنعني من التردد على مجالس العلماء أمثال الشّيخ البشير الإبراهيمي وغيره.
في سنة 1967 قرّرت الجزائر تنظيم مؤتمر دول عدم الانحياز بأرضها, وبدأ التحضير لهذا المؤتمر حيث رشّحت لأكون سائق أحد الرؤساء, وتمّ ذلك عن طريق مسابقة أين تحصّلت على المرتبة الأولى, فعينّت سائقا لنائب رئيس المؤتمر المتمثّل في شخص الوزير الأول الإثيوبّي الذّي كان نائبا لهواري بومدين في رئاسة المؤتمر , والذيّ دعاني ذات يوم إلى مأدبته الخاصة لما رأى منيّ من أخلاق طيّبة حيث سمعته يقول لكاتبته:" هذا شاب رائع وممتاز". قدّم لي شيئا من الخمر فامتنعت, تعجب لحالي وقال لي: "كيف يمكن لشاب مثلك الامتناع عن تناول هذه المشروبات؟". من هذا التصرف الذي أعجبه .حاول البحث عنيّ عند عودته للجزائر مرّة ثانية وطلبني لكنه لم يجدني.
في سنة 1968 حاولت الهيئة التي أنتمي إليها القيام بانقلاب على الرّئيس "هواري بومدين" بقيادة" الطاهر الزبيري", لكنّها لم تنجح في ذلك. على إثر ذلك قام هواري بومدين بتفكيك أعضاء هذه الهيئة على مختلف الولايات, وأبقى فرقة تتكون من سبعة عشر فردا وكنت أحد أفرادها بالعاصمة, لكون أن أفراد الفرقة كانت لهم ميزة الأمانة والصدق, أصبحت علينا ضغوطات قاسية ،كرهت الأمر وغيرّت من سلوكاتي حتى أرسلوني للعمل في قسنطينة, لم يعجبني الأمر وامتنعت عن الالتحاق بالعمل, غيرّت وجهتي وعدت إلى مدينة المنيعة.
كان قائد الهيئة في قسنطينة صديق لي, فبعث إليّ بمدينة المنيعة حيث طلب منيّ الالتحاق بقسنطينة ووعدني بالعيش معززا مكرما, استبشرت خيرا وقرّرت الالتحاق بمدينة قسنطينة بلد العلم والعلماء أمثال ابن باديس.
ذات يوم اتصلت بأحد المعاهد الإسلامية بقسنطينة طلبا للعلم ووعدني مدير المعهد بقبولي فيه, وقال لي: "إن بقيت ستّ سنوات في المعهد ستصير داعية", قررت بأن أكون كذلك من خلال التخلي عن العمل في سلك الأمن والتفرغ التام للعلم, للأسف ولأنه كان عندي ولدين بنت وولد, طلبت من أبي في أن يكفلهما لي وأتفرغ لطلب العلم فأبى ذلك, وجدت نفسي مخيرا بين أمرين إما طلب العلم أو إهمال ولديّ الذيْن كانا أمانة في عنقي, فاخرت ترك طلب العلم والاستمرار في الوظيفة, إلى غاية سنة 1970 دعيت إلى الجزائر العاصمة من طرف المديرية العامة للأمن الوطني للإشتراك في دورة تكوينية تخصّ تعلّم السّياقة العالمية, شاركت في التربص وتحصلت في نهايته على المرتبة الأولى. وبعد الانتهاء من التربص عدت إلى قسنطينة ومارست عملي المعتاد, وفي نفس السّنة وفّقني الله لتأدية فريضة الحج بصحبة أبي رحمه الله.
بقيت على هذا الحال إلى غاية أواخر سنة 1973, ضاقت بي الأرض بما رحبت لأني كنت شغوفا لطلب العلم, فاستخرت الله سبحانه وتعالى وبعثت طلبا للمديرية العامة للأمن الوطني أطلب من خلاله التحويل إلى مدينة ورقلة بالضبط إلى مديرية العتاد أو الاستقالة, وحدّدت لهم مهلة خمسة عشر يوما إما التعيين في ورقلة أو الاستقالة, تمت الموافقة من قبل المديرية العامة للأمن على تحويلي إلى ورقلة, وبالضبط إلى المصلحة الجهوية للعتاد بورقلة لأن تخصّصي تقني في العتاد. حمدت الله سبحانه وتعالى على قدومي إلى مدينة ورقلة لأنه كان فيها فطاحلة من العلماء من أمثال: الشّيخ سي محمد بن الحاج عيسى, الشّيخ سي محمد الأخضر السائحي, الشّيخ سي الطالب بلخير ذكار, الطالب علي بن الطيب, الشّيخ سي الطاهر العبيدي بتقرت وآخرون.
بعد استقراري عزمت على طلب العلم مرّة أخرى, لكني فوجئت بموت الشّيخ محمد بن الحاج عيسى, لكنّ الأمل لم يخب وخلف الشّيخ من تلامذته الشّيخين الطالب بلخير والطالب عليّ بن الطيب فلزمتهما حتى مماتهما. سألتهما ذات يوم أن ينصحاني ما أفعل, فقالا لي:"اتق الله حيثما كنت", وكانا يعلمان بأني من رجال الأمن. قلت لهما ذات يوم بأن رفقتي معكما حجّة عليّ يوم القيامة لا حجّة لي, فوافق الشّيخان على أن أطلب العلم على يديهما, بدأت بحفظ القرآن مع الطالب بلخير, والفقه مع السّي الطالب عليّ, هذا الأخير كانت له ظروف خاصة لكبر سنّه حيث لم أكن أراه إلا مرّتين في الشهر, أما الملازمة الدائمة فكانت مع الشّيخ سي الطالب بلخير ذكار مرتين في الأسبوع: يوم الخميس ويوم الجمعة. عشيّة يوم الخميس كانت حلقته عامة لجميع الناس بالمسجد العتيق, بسيدي بوغفالة,وصبيحة يوم الجمعة كانت خاصة في منزلي مع بعض المشايخ و أولادي: إبراهيم وعيسى ومخلوف .
ختمت القرآن على يد الشّيخ الطالب بلخير خلال مدّة ثلاثة عشر سنة, وحفظت بعض المتون مثل: سراج السّالك, ابن عاشر, العبقري, الغرّة, الرّحبية مع شرح هذه المتون, حتىّ توفي الشّيخ الطالب بلخير سنة 1989 رحمه الله, حزنت عليه حزنا كبيرا لأنه كان لي شيخا و أبا وصديقا وأخا كذلك. وكان قد سبقه في الوفاة الشّيخ محمد الأخضر السائحي طيّب الله ثراه, هذا الأخير الذي كنت أحضر دروسه و مواعظه هو الآخر مرّة في الأسبوع, وسمعت منه الكثير وحفظت عليه شرح ابن عاشر وبعض المواعظ في الإرشاد حتى توفّي رحمه الله, وكنت شيّعت جنازته إلى مثواه الأخير بـ"العلية" بتنظيم موكب جنازته, وبعده توفي الشّيخ الطالب عليّ رحمه الله أيضا, كنت شغوفا بطلب العلم والمذاكرة حتى بعد وفاة مشائخي , أين كنت أحيانا لا أنام من اللّيل إلاّ قليلا.
بعد وفاة مشايخي رحمهم الله جميعا كوّنت حلقة لطلبة العلم يوم الجمعة بمنزلي, وفي مسجد النّور أيضا طيلة أيام الأسبوع بعد صلاة المغرب. ولا زلت مستمرا بحلقة المذاكرة يوم الجمعة إلى غاية الآن, لكنها مخصّصة للطالبات الجامعيات.
داومت على هذا الحال مدّة من الزمن ثم شددت الرحال إلى الجنوب الغربّي بالضبط إلى مدينة أدرار لحضور حلقات شيخها الفاضل الشّيخ محمد بلكبير وتلامذته: الشّيخ سالم و الشّيخ عبد الكريم, وحضور حلقات الشّيخ باي والشّيخ عبد الرحمن الحفصيّ, وحضور لقاءات مع الشّيخ محمّد الكنتي, وذهبت إلى مدينة عين صالح لزيارة محمّد الزاوي وحضور حلقاته ،كما حضرت عدة محاضرات للشيخين عبد القادر قريشي والطّيّب قريشي, ولا ننسى شيخنا الفاضل الشّيخ البخاريّ الذيّ حضرت له هو الآخر عدّة دروس, وكذا الطالب محمّد فروحات.
شددت الرّحال إلى البقاع المقدّسة لأداء الحجّ والعمرة ولطلب العلم وكانت ستّ رحلات: ثلاثة للحج وثلاثة للعمرة, آخرها كانت في شهر رمضان, كانت مثمرة جدا التقيت خلالها بعدّة مشايخ من بينهم: القطب الربّاني الشّيخ سيدي سليمان معلّم الشّيخ محمّد بلكبير, وهو من أصل جزائريّ عاش بأم القرى مدّة أربعين سنة في رباط عثمان لا أهل له ولا ولد, وله نظيره من سطيف لا أتذكر اسمه, سألت الله سبحانه أن يريني مثلهما فأرانيهما وكان هذان الشّيخان من أهل الكشف. حضرت كذلك عدّة مرّات للشيخ الفاضل الشّيخ عطيّة قاضي قضاة أهل المدينة وعدّة مشايخ في المدينة, منهم: الشّيخ الحذيفيّ وآخرون كثيرون. كذلك تسنى لي لقاء مع الدكتور رضا شيخ الإمام الغزاليّ وعميد كلية الشريعة بالمدينة المنورة, جالسته مدّة خمسة أيام بالرّوضة الشّريفة, نقلت عنه الكثير وأحبّني وأحببته ودعا لي بالخير, قال لي ذات يوم: "إن حلفت بالله أنك صلّيت في الجنّة لم تحنث لقول ابن عباس: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: « بين بيتي و منبري روضة من رياض الجنة.»" وكانت كلّ صلواتي بالمدينة المنّورة في الرّوضة الشّريفة, تعلّمت فيها وعلّمت, وصمت فيها واعتكفت. ذات يوم كنت قبل صلاة الفجر بالرّوضة الشّريفة, فأتى رجل لم أ عرفه وجلس أمامي وعليه علامات الوقار والعلم فسلّم علي وقال لي:"أريد أن أقصّ عليك رؤية رأيتها البارحة ورأيتها أنت كذلك", فعجبت منه كيف عرف أنيّ رأيتها, فطلبت منه أن يقصّ عليّ الرؤية فقال:" إني رأيت عمر بن الخطاب في المنام فشكرني ودعا لي وكذلك أنت", فقلت :"إن كانت هذه رؤيتك فأنا رأيت مثلها كذلك", فبكيت واستبشرت خيرا. ودّعني الرّجل وذهب إلى حاله. وكان لي شرف أني التقيت بمدير مسجد رسول الله أداره مدّة ثلاثة عشر سنّة وأحيل على التقاعد, أخبرني بأسرار الحجرة وما فيها, ولا داعي لإفشائها.
أما بمكّة فقد لقيت فيها فطاحلة من العلماء: مثل الشّيخ بن باز والذي حضرت له ثلاثة عشر محاضرة, وإمام الحرم وآخرون كثيرون وأخصّ بالذكر العالم العلامة الشّيخ إبراهيم وأصله من تركيا الذي وجدت عنده أشياء لم أجدها عند غيره من العلماء لا في الجزائر ولا في خارجها, كما كان لي لقاء مع المشايخ: محفوظ نحناح و الشّيخ أبو سليماني والشّيخ عبد القادر إمام المسجد العتيق بالبليدة وآخرون, حجّينا مترجلين مع بعضنا البعض ذهابا وإيابا من منى إلى عرفات والعودة إلى منى. من محاسن هذه الحجّة أني صنفت ثالث الثلاثة من قبل الشّيخ نحناح عند نزولنا بالمزدلفة عندما قال لي نحناح رحمه الله:" أنت أذّن وأنا أقيم والشّيخ عبد القادر يصلي بنا"، وكان في الرحلة قرابة الخمسين عالما وكان لي شرف عظيم أني صنّفت في هذه الرتبة التي هي النداء للصلاة بالأذان .رحمهم الله جميعا.
ووقائع كثيرة لا يحصيها إلا الله سبحانه وتعالى وقعت في هذه الحياة, من بينها أن أبي رحمه الله رأى لي رؤية بالمدينة المنوّرة في الحجّة التي أديتها معه سنة 1970 وهي حجّة الإسلام, بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غطاني وإياه بإزار أخضر ودعا لنا.ورأيت رسول الله عدّة مرّات, كنت بارا بوالديّ حتى مماتهما, صليّت عليهما ووضعتهما في مثواهما الأخير, ولا أزال بارا بهما بتوفيق من ربّنا. ذات يوم خيّرني والدي بقوله: "هل تريد الدنيا أم الآخرة" فقلت له:" أريد الآخرة", فقال لي: «الله لا يخطيك خير حتى تموت». و لازلت في خير والحمد لله.
تعلّمت وعملت وعلّمت, حجّيت واعتمرت,اعتكفت وربطت, زكيّت، وصمت, صليّت إماما وأذّنت وتهجّدت, وكلّ سنّة بلغني أن رسول الله فعلها قمت بفعلها ولو مرّة واحدة ما عدا التّسرّي الذي لم أجد له سبيلا, أنجبت من الأبناء أربعة عشر ابنا, منهم ثمان بنات, وستّة ذكور, خمسة منهم ماتوا صبيانا صغارا, وبقي تسعة, أغلبهم حفظ كتاب الله وأتمّ دراسته الجامعية والحمد لله ربّ العالمين. أتهجد بالقرآن وأختمه مرّة في الأسبوع بداية من ليلة الجمعة إلى صبيحة يوم الخميس, أضف إلى ذلك الأوراد التي أقرأها في الصباح والمساء.
كنت أصارع الحياة بين العمل وطلب العلم وتربية الأبناء وتعليم العلم, ألّفت كتابا سمّيته:" الورد القرآني بأتمّ المعاني", اقتبسته من سيرة أربعمائة وليّ من أولياء الله الصّالحين من كتاب "حلية الأولياء للأصفهانيّ",وما ألفته حتىّ عملت به عشرين سنة, وانتشر وعمل به في جميع القطر الجزائري, جعله الله حجّة لي لا عليّ, افتتنت في حياتي كلها بفتن كثيرة كقطع الليل المظلم وانتصرت فيها خاصّة في آخر حياتي.
بعد تقاعدي, تفرّغت كليّة للعبادة وحكمّت على نفسي قوله تعالى:« وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)» (سورة الذاريات). وأرجو من الله أن يبقيني على حالتي هذه حتى يقبضني إليه وهو عني راض. اعتزلت الناسّ إلاّ للضرورة كحضور صلاة الجمعة والجماعة و تشييع الجنائز وعيادة المريض أومن استنصحني في دينه ودنياه كذلك.
أما الكرامات لا أذكرها ولا حاجة لي في ذكرها, كما يقولون:« أفضل الكرامات التقوى ». زهدت في الدّنيا إلاّ للأمر الذي لابدّ منه, ويظنّ البعض أن الزّهد في ترقيع الثّوب والامتناع عن الأكل الحلال, لكنّ الزّهد في أكل الحلال والاستغناء عن النّاس. كما كنت أتورع عن الذهاب إلى ولائم العرس وولائم الجنائز للبدع والمنكرات التيّ تقع فيها, وللكسب الغير شرعيّ حيث لا آكل إلاّ من كسب يدي الخاص, كما أتورع عن الشبهات.
منذ ما يقارب الثلاثين سنة, لا أنام في فراشي إلاّ على طهارة سواء كانت كبرى أو صغرى, ولا أهجع من الليل إلا قليلا, ولم يؤذن المؤذن عليّ وأنا خارج المسجد, كما أنيّ لحد الآن مؤذن للأذان الأول, ولا أخرج بعد الأذان قطّ حتى أنتهي من الصلاة, منذ ذلك الوقت لم أر قفا أحد في الصّلاة. ما صمت فرضا ولا سنّة إلا صليت معه صلاة التسابيح, وما تركت سبحة الضحى مطلقا في حياتي, أما في آخر عمري فحبب إليّ مداعبة الصبيان وتلبية ما يحبّون وأمنحهم الحلوى, فيدعون لي بالجنّة والفردوس الأعلى, لأن الله يحبّ مداعبة الصبيان وأحببت ما أحبّه الله سبحانه وتعالى. وأحبّ في الله وأبغض في الله, ولا أحبّ من يعصى الله حتى لو كنت أنا من يعصاه, وآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر حتى لو لم افعله, وأحبّ الصالحين ومن يحبهم, وأرجو من الله أن يحشرني في زمرتهم.
قسّمت مسار حياتي إلى ثلاثة مراحل: مرحلة صعود, مرحلة استواء, ومرحلة هبوط.
1 - مرحلة الصعود: يسعى فيها الإنسان لما يمليه عليه القضاء والقدر.
2 - مرحلة الاستواء: يصحّح فيها معلوماته.
3 - مرحلة الهبوط: يستعدّ فيها للقاء ربّه.
وقد تجاوزت المرحلتين وأنا الآن في المرحلة الأخيرة, التي أرجو من الله أن يوفّقني لإتمامها.
ووجدت على حسب رأيي كل شيء يزول ويفنى إلاّ مكانة الشّخص, أي ما كان عليه في حياته من خير وغيره يذكر به بعد مماته, وجاهدت نفسي على أن يختم لي بمكانة الخير فاخترت ما أوصاني به مشايخي من تقوى الله. كما أنّ كلّ إنسان يحتاج لمعيّةٍ فاخترت معيّة الله. لقوله تعالى: « إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)» سورة النحل.
و لقول بعضهم:
ذنوبي وإن فكرت فيها كثيرة ولكنّ رحمة الله من ذاك أوسع
وما طمعي في صالح إن عملته ولكنيّ في رحـمة الله أطمع
اللّهم اجعلنا من المتّقين واجعلنا من المحسنين.
وما كتبت هذه المذكرة إلاّ للاستفادة منها. أرجو من أبنائي وأحبّائي, ومن أراد أن يقتدي بها أن ينشر ما فيها من خير, ويستر ما فيها من عكسه. راجيا من المولى العليّ القدير أن يختم بالسّعادة آجالنا ويحقّق بالزّيادة آمالنا ويقرن بالعافية غدوّنا وآصالنا, ويجعل إلى رحمته مصيرنا ومآلنا ويصبب, سجال عفوه على ذنوبنا, ويمّن علينا بستر عيوبنا, اللّهم اجعل تقواك زادنا والثقّة بك ذخرنا و اعتقادنا, واغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا وجميع المسلمين والمسلمات, آمين.
تصميم و تركيب واستضافة السيّد: أولاد الحاج إبراهيم إبراهيم بريد إلكتروني: ohbrahim@hotmail.com
جميع الحقوق محفوظة